غدت فلسطين بعد الفتح العربي الإسلامي إقليماً تابعاً للدولة الإسلامية في المدينة , يحمل اسم جند فلسطين . وحين نشبت الفتنة الكبرى في عهد الخليفة الراشد الثالث عثمان بن عفان , كان معاوية بن أبي سفيان والياً على الشام ، واعتزل عمرو بن العاص الفتنة في ضيعة له بالسبع , هي عجلان , قرب قرية بربرة شمال شرق غزة . وبقيت فلسطين مع بقية بلاد الشام تحت حكم معاوية زمن خلافة علي بن أبي طالب .
حين آل أمر الخلافة إلى معاوية بعد معركة صفين ، استهل عهده بالذهاب إلى بيت المقدس, حيث أعلن خلافته منها عام 40هـ - 661 م , ومن ثم بايعه الناس . وروي أنه بعد مبايعته زار جبل الجلجلة , وصلى هناك , ثم قصد إلى الجثمانية , وهبط إلى قبر السيدة مريم وصلى هناك . وقد زار القدس في عهده الأسقف الفرنسي أركولفوس حاجاً عام 760 م , وقضى فيها تسعة شهور , وكتب وصفاً مسهباً لكنيسة القيامة والكنائس الأخرى ، وذكر أن المسلمين بنوا مسجداً مربع الأضلاع , يتسع لثلاثة آلاف من المصلين .
كان من أهم ما قام به الأمويون بناء الحرم القدسي الشريف ، في بقعة مقدسة منذ القديم , تعود إلى نشأة المدينة . ويتألف هذا الحرم من المسجد الأقصى ومسجد الصخرة وما بينهما وما حولهما من منشآت , على مساحة 140900 متراً مربعاً . وقد بناها عبد الملك بن مروان عام 66هـ - 685م ، وأوقف على نفقاتهما خراج مصر لمدة سبع سنين . واكتمل بناء بقية الصخرة سنة 70هـ - 691م . ويسهب المؤرخون القدماء والحديثون عرباً وأجانب في وصف تكوينه الرائع , الذي جاء آية في فن الهندسة على مر العصور . وقد سجل الدباغ والعارف في كتابيهما العديد من الشهادات على ذلك .
حفظ التاريخ لعبد الملك بن مروان أنه حوّل الدواوين إلى العربية ، ونقش الدراهم والدنانير بالعربية ، "الله أحد" على وجه و"الله الصمد" على الوجه الآخر . ويذكر أنه اعتنى بفتح الطرق وتعبيدها .
وهنا ازدهرت القدس في عهده وعهد ابنه الوليد . وغدت - على قول الدباغ - "واحدة من المراكز العظيمة في الدولة الأموية . ففضلاً عن إقامتهما مباني الحرم الشريف , فإنهما أعادا بناء الأسوار المحيطة بالمدينة , وبنوا القصور والأبنية الفخمة بجوار الزاوية الجنوبية لسور الحرم , التي استمرت مسكونة من قبل أمراء القدس في العهود الأموية والعباسية والفاطمية .
وحين ولي سليمان بن عبد الملك الخلافة بعد أخيه الوليد سنة 96هـ - 715م ، أتى بيت المقدس , كما يقول صاحب "الأنس الجليل" ، "و أتته الوفود بالبيعة , فلم يروا وفادة كانت أهنى من الوفادة إليه .. وقد همَّ بالإقامة في بيت المقدس , واتخاذها منزلاً , وجمع الأموال والناس بها . وحين تولى الخلافة عمر بن عبد العزيز بعد وفاة سليمان , طلب من جميع ولاته أن يزوروا القدس , ويقسموا يمين الطاعة والعدل في المعاملة بين الناس في مسجدها ، كما يذكر الدباغ نقلاً عن محمود العابدي في كتابه "قدسنا" .
في تتبعنا لأخبار القدس في عهد الدولة العباسية ، نذكر أن الخليفة المنصور زارها عام 154هـ ، وقد طلب منه أهل بيت المقدس ترميم ما أصاب الحرم الشريف من خراب , بسبب زلزال حدث عام 130هـ فقام بذلك . ووضع تقليداً أن يزور كل خليفة عباسي القدس . وقد زارها الخليفة المهدي . وزارها الخليفة المأمون سنة 216هـ وهو في طريقه إلى مصر ، وفق ما ذكره الدباغ عن صاحب "الأنس الجليل" , وهو يعدد ما جاء في الكتب من أخبارها.
وخرج عارف العارف من تتبعه للقدس في العصر العباسي بأن "تأثير العباسيين في فلسطين , ولا سيما في عهدهم الأخير كان ضئيلاً" , وعلل ذلك بسبب بعد المسافة . وعني الطيباوي بتقديم مقتبسات مختصرة من مؤلفات أربعة من الكتاب المسلمين , الذي عرفوا القدس والخليل في ذلك العصر . وهم ابن واضح اليعقوبي , الذي ألف كتاب "البلدان" ، وشمس الدين المقدسي الجغرافي الرحالة ، صاحب كتاب "أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم" ، وناصر خسرو الرحالة الفارسي , الذي وصل القدس في رمضان 438هـ - 1047م ، وأبو حامد الغزالي الذي زار القدس والخليل , وكتب "المنقذ من الضلال", الذي تحدث فيه عن اعتكافه في مسجد قبة الصخرة . وقد التفوا جميعهم على الإشادة بفضائل بيت المقدس . واستنتج الطيباوي مما كتبوه عنها "وجود أوقاف فيها وفي الخليل , كان يصرف ريعها على الحجاج وطلاب العلم والضيوف . وكذلك وجود بيوت وزوايا لإيواء القادمين للمجاورة , أو المارين في طريقهم إلى مكة , أو العائدين منها . وأيضاً وجود مستشفى واحد على الأقل في القدس , لمنفعة المقيمين والقادمين" .
أعلام مرموقون ولدوا في القدس أو زاروها أو جاوروها . وقد قام مصطفى الدباغ بذكر أربعين علماً في موسوعة "بلادنا فلسطين" . وعني أيضاً مع مؤرخين آخرين بذكر من زار القدس من الرحالة الأجانب . فبعد المطران فرنك أركولف , الذي سبق ذكره ، زارها عام 870م السائح برنارد الحكيم , وكتب عن زيارته , مشيداً بما بين المسلمين والمسيحيين من تفاهم تام ، وباستتباب الأمن ، ومتحدثاً عمن لقي من الحجاج المسيحيين , الذين كانوا ينزلون معه في نزل أسسه الملك شارلمان , الذي قامت بينه وبين هارون الرشيد صلات ودية . وقد فصل الحديث عن هذا الرحالة نقولا زيادة في كتابه "رواد الشرق العربي في العصور الوسطى" .
كانت السماحة الدينية أبرز سمات العيش في القدس وفي الدولة الإسلامية عامة ، كما سبق أن ذكرنا . وقد عني ميخائيل مكسي بالوقوف أمام ذلك في كتابه "القدس في التاريخ" ، وقال في ذلك "امتاز العباسيون بحسن معاملة المسيحيين , خصوصاً في عهد هارون الرشيد 786م , الذي سمح للإمبراطور شارلمان بترميم الكنائس , وبناء كنيسة باسم العذراء ، وعمل على حماية الحجاج المسيحيين" .
هذا بشأن المسيحيين من أهل الكتاب , الذين حكم التعامل الإسلامي معهم مبدأ "لهم ما لنا وعليهم ما علينا" . فماذا بشأن اليهود؟ .
لقد عني كاتب هذا الحديث بتناول هذا الموضوع في بحثه "الوجود اليهودي في القدس منذ أقدم العصور" ، فعرض لوجودهم قبل الغزو الفرنجي منذ الفتح ، في ظل انتمائهم لحضارة الإسلام ، قائلاً :
نستدل من العهدة العمرية على عدم وجود أحد من اليهود في إيلياء في يوم الفتح , حيث طلب أهلها الذين كانوا يدينون بالنصرانية "ألا يسكن بإيلياء معهم أحد من اليهود" , وقد استجاب الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه لهذا الطلب , الذي تقدم به باسم أهل إيلياء البطريرك صفرنيوس , وكان هذا البطريرك قد اشترط حين اشتد حصار المسلمين للمدينة أن يسلمها للخليفة نفسه , فلبى عمر وجاء بنفسه , وأعطى عهده الشهير إلى أهل إيلياء من الأمان "لأنفسهم وأموالهم وكنائسهم وصلبانهم , ولا يكرهوا على دينهم , ولا يضار أحد منهم" , ولبّى طلبهم ألا يسكن بإيلياء معهم أحد من اليهود , الذين كانوا كما مر بنا قد حالفوا الفرس ضد الروم وآذوا النصارى .
وبقيت القدس خالية من اليهود تنفيذاً لما جاء في هذا العهد فترة من الزمن , لم تطل , لأن الحكم الإسلامي الذي كفل حرية الاعتقاد فلا إكراه في الدين , واحترم أهل الكتاب من اليهود والنصارى , وترك لكل ملة أن تنظم شؤونها الدينية , ورحب بمشاركة جميع الأقوام والملل في الحياة العامة ، سمح لليهود بزيارة القدس , ثم بالعمل فيها وسكناها .
ويذكر إسحاق موسى الحسيني في كتابه "عروبة بيت المقدس" نقلاً عن مجير الدين الحنبلي أن عبد الله بن مروان الأموي أتاح لعشرة من اليهود أن يخدموا صناعاً في المسجد الأقصى , يعملون القناديل والأقداح والثريات وغير ذلك , "لا يؤخذ منهم جزية جارياً عليهم وعلى أولادهم" , وقد انتهت خدمتهم في عهد عمر بن عبد العزيز . ويقول عبد اللطيف الطيباوي في معرض وقوفه أمام هذا الأمر "وكذلك لا يوجد سند تاريخي يثبت نقص ما جاء في العهد العمري لنصارى إيلياء بمنع إقامة اليهود فيها . كلا ، ولا بينة تفسر سبب إهمال العمل بهذا النص , والغالب أن الشرط لم يلغ , بل قلّ الالتفات إليه تدريجياً في جو التسامح العام , وكان هناك عدد من اليهود في مدن فلسطين الأخرى ، عسقلان وقيسارية وغزة وطبرية ، وقد رأوا سماحة الحكم العربي بالإسلام , فرحبوا به , وهللوا له , وكتب عراف يهودي عن هذا الحكم فجعل ملاكاً يقول لكاهن "لا تخف يا بن يهوه فالخالق تبارك اسمه لم يضع مملكة إسماعيل إلا ليخلصكم من هذا الشر" , يقصد حكم الروم البيزنطيين , كما نقل برنارد لويس في كتابه العرب في التاريخ , وكان اليهود يطلقون على دولة العرب المسلمين اسم مملكة إسماعيل .
في ظل هذا الحكم عاش في القدس نفر من اليهود إلى جانب أهلها من النصارى والمسلمين , وقد تزايد عدد العرب المسلمين فيها , لما اتصفت به من جاذبية لهم , بحكم قدسيتها , فجذبت مهاجرين منهم إليها ، ولأن الدين الإسلامي كان ينشر تدريجياً في أوساط المسيحيين واليهود .
وتشير مصادر يهودية اعتمد عليها بن زيون دينور في بحثه المنشور في كتاب "اليهود في أرضهم" , إلى أن سبعين أسرة سكنت القدس في العصر الأموي , وذلك بعد أن عبرت سماحة العرب تجاه الجماعات الدينية عن نفسها في العهد الأموي , على حد قوله , وبوضوح أشد في العهد العباسي . وقد سجل دينور هذه الحقيقة , وحاول إلقاء ظلال من الشك عليها , بإيراد تعليلات غير موضوعية لها , جعلت حديثه حافلاً بالمتناقضات . ويستدل من حديث الرحالة المسلم ناصر خسرو , الذي زار القدس سنة 438هـ الموافق لـ 1047م أن عدد سكان المدينة كان عشرين ألفاً , وأن مثل هذا العدد من الحجاج كان يزورها سنوياً .
استمر الوجود اليهودي في القدس منذ الفتح العربي الإسلامي لها إلى أن احتلها الفرنجة عام 1099م , وفي فلسطين و المنطقة , التي أصبحت تعرف بدار الإسلام عامة ، وساهم في هذا الاستمرار هجرات أفراد من اليهود إلى فلسطين , طلباً للأمن أو العلم , أو بغرض التعبد , سواء من دار الإسلام أو من خارجها . وقد لاحظ باركس في كتابه "تاريخ فلسطين من 135 إلى الزمن الحديث" أن الحكام المسلمين لم يرفضوا في أية فترة السماح ليهود من بلاد أجنبية أن يدخلوا فلسطين , ويقيموا فيها , وبدون هذه الهجرة ما كان لوجودهم أن يستمر , وذلك لأن أعداداً منهم كانت تعتنق الإسلام بكامل رغبتها , وألحق هذا السماح , الذي يشير إليه باركس , لليهود المستأمنين , الذين يأتون مسالمين , وهو نابع من تعاليم الدين الحنيف .
عاش أهل فلسطين والقدس في ظل الحكم الإسلامي التحول العظيم , الذي حدث في القرن الأول الهجري , بفعل نشوء العمران الحضاري العربي الإسلامي , وشاركوا بمختلف مللهم في ازدهار هذا العمران الحضاري , من موقع الانتماء الحضاري إليه . وهذه ظاهرة يوقف أمامها , وقد كانت لها تجلياتها في طابع حياتهم في القدس ودار الإسلام . ومن الذين وقفوا أمام هذه الظاهرة أحد يهود الإسلام , كما يصف نفسه , إلى جانب كونه أحد يهود العرب , هو جدع جلادي , الذي كتب "إسرائيل نحو الانفجار الداخلي" , وخصص الفصل الأول من كتابه هذا لتأمل هذه الظاهرة ، واختار عنواناً للفصل "الوئام بين يهود العالم الإسلامي والأمة الإسلامية" . وقد أحسن جلادي الإحاطة بالظاهرة فيما كتب , وتتبع جذورها , فعرض بداية تعامل الرسول صلى الله عليه وسلم مع اليهود , وحلل مضمون الصحيفة , ثم تحدث عن اليهود والفتوحات الإسلامية , وترحيبهم بها , ثم شرح نظام الملل الإسلامية , وأطلق عليه مصطلحاً حديثاً هو "الحكم الذاتي اليهودي" , ثم فصل الحديث عن اليهود في الحكم الإسلامي , وإسهامهم في ازدهار الاقتصاد , ثم وقف أمام تعرب اليهود في الإسلام لساناً وثقافة وحضارة ، وعرض أسماء من برزوا منهم في مختلف العلوم والآداب , وفصل الحديث عن التسامح الإسلامي , وختم بحديث عن يهود الغرب ويهود العراق .
وكان كاتب هذا الحديث قد وقف أمام هذه الظاهرة في بحثه "تطور حياة اليهود في فلسطين" , وفي بحثه عن "التعددية الدينية في الإسلام" , المنشور في كتابه "وحدة التنوع" . كما تناولت كتابات عربية وأجنبية الظاهرة بالدراسة . ولافت للنظر أن الكتابات الصهيونية حين وقفت أمامها حارت في كيفية التعامل معها , فحفلت بالتناقض مع نفسها ، ومثّل عليها الفصل الذي كتبه بن زيون دينور في كتاب "اليهود في أرضهم" .
إن هذه الظاهرة تفسر خلو تاريخ يهود الحضارة الإسلامية من أية ثورات على الحكم , على ما رأيناه في تاريخ اليهود , في ظل حضارتي اليونان والرومان , كما تفسر الإسهام الإيجابي لليهود في هذه الحضارة , وانعكاسها الإيجابي على حياتهم . وقد عرض فؤاد حسنين في كتابه "المجتمع (الإسرائيلي) منذ تشريده حتى اليوم" مثلاً على ذلك ظهور مذهب القرائين , الذي هو و لا شك وليد الإسلام والمجتمع الإسلامي ، وكان اليهود قبله يخضعون دينياً لنظام تلمودي شديد , يقيد حريتهم ، فإذا بالحضارة العربية الإسلامية تهزهم وتزعزع ثقتهم في التلمود , فكان أن ظهر هذا المذهب الجديد , وطور "الربانيون" منهم مذهبهم .. وهكذا برز عنان الذي أسس القرائين في العصر العباسي , وتأثر بتيارات الفكر الإسلامي . وبرز أيضاً سعيد الفيومي , الذي دافع عن اليهودية "السنية" ضد القرائين , وألف عدداً من الكتب .
والحديث عن انتماء يهود الإسلام إلى الحضارة العربية الإسلامية , وإسهامهم فيها , يغري بالاستطراد , ولكن مجال هذا الحديث يضيق عنه , ونكتفي بالإشارة إلى أعلام يهود برزوا , من أمثال موسى بن ميمون , وابن كمونة , والسمؤل بن حنفي , وغيرهم .
حين آل أمر الخلافة إلى معاوية بعد معركة صفين ، استهل عهده بالذهاب إلى بيت المقدس, حيث أعلن خلافته منها عام 40هـ - 661 م , ومن ثم بايعه الناس . وروي أنه بعد مبايعته زار جبل الجلجلة , وصلى هناك , ثم قصد إلى الجثمانية , وهبط إلى قبر السيدة مريم وصلى هناك . وقد زار القدس في عهده الأسقف الفرنسي أركولفوس حاجاً عام 760 م , وقضى فيها تسعة شهور , وكتب وصفاً مسهباً لكنيسة القيامة والكنائس الأخرى ، وذكر أن المسلمين بنوا مسجداً مربع الأضلاع , يتسع لثلاثة آلاف من المصلين .
كان من أهم ما قام به الأمويون بناء الحرم القدسي الشريف ، في بقعة مقدسة منذ القديم , تعود إلى نشأة المدينة . ويتألف هذا الحرم من المسجد الأقصى ومسجد الصخرة وما بينهما وما حولهما من منشآت , على مساحة 140900 متراً مربعاً . وقد بناها عبد الملك بن مروان عام 66هـ - 685م ، وأوقف على نفقاتهما خراج مصر لمدة سبع سنين . واكتمل بناء بقية الصخرة سنة 70هـ - 691م . ويسهب المؤرخون القدماء والحديثون عرباً وأجانب في وصف تكوينه الرائع , الذي جاء آية في فن الهندسة على مر العصور . وقد سجل الدباغ والعارف في كتابيهما العديد من الشهادات على ذلك .
حفظ التاريخ لعبد الملك بن مروان أنه حوّل الدواوين إلى العربية ، ونقش الدراهم والدنانير بالعربية ، "الله أحد" على وجه و"الله الصمد" على الوجه الآخر . ويذكر أنه اعتنى بفتح الطرق وتعبيدها .
وهنا ازدهرت القدس في عهده وعهد ابنه الوليد . وغدت - على قول الدباغ - "واحدة من المراكز العظيمة في الدولة الأموية . ففضلاً عن إقامتهما مباني الحرم الشريف , فإنهما أعادا بناء الأسوار المحيطة بالمدينة , وبنوا القصور والأبنية الفخمة بجوار الزاوية الجنوبية لسور الحرم , التي استمرت مسكونة من قبل أمراء القدس في العهود الأموية والعباسية والفاطمية .
وحين ولي سليمان بن عبد الملك الخلافة بعد أخيه الوليد سنة 96هـ - 715م ، أتى بيت المقدس , كما يقول صاحب "الأنس الجليل" ، "و أتته الوفود بالبيعة , فلم يروا وفادة كانت أهنى من الوفادة إليه .. وقد همَّ بالإقامة في بيت المقدس , واتخاذها منزلاً , وجمع الأموال والناس بها . وحين تولى الخلافة عمر بن عبد العزيز بعد وفاة سليمان , طلب من جميع ولاته أن يزوروا القدس , ويقسموا يمين الطاعة والعدل في المعاملة بين الناس في مسجدها ، كما يذكر الدباغ نقلاً عن محمود العابدي في كتابه "قدسنا" .
في تتبعنا لأخبار القدس في عهد الدولة العباسية ، نذكر أن الخليفة المنصور زارها عام 154هـ ، وقد طلب منه أهل بيت المقدس ترميم ما أصاب الحرم الشريف من خراب , بسبب زلزال حدث عام 130هـ فقام بذلك . ووضع تقليداً أن يزور كل خليفة عباسي القدس . وقد زارها الخليفة المهدي . وزارها الخليفة المأمون سنة 216هـ وهو في طريقه إلى مصر ، وفق ما ذكره الدباغ عن صاحب "الأنس الجليل" , وهو يعدد ما جاء في الكتب من أخبارها.
وخرج عارف العارف من تتبعه للقدس في العصر العباسي بأن "تأثير العباسيين في فلسطين , ولا سيما في عهدهم الأخير كان ضئيلاً" , وعلل ذلك بسبب بعد المسافة . وعني الطيباوي بتقديم مقتبسات مختصرة من مؤلفات أربعة من الكتاب المسلمين , الذي عرفوا القدس والخليل في ذلك العصر . وهم ابن واضح اليعقوبي , الذي ألف كتاب "البلدان" ، وشمس الدين المقدسي الجغرافي الرحالة ، صاحب كتاب "أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم" ، وناصر خسرو الرحالة الفارسي , الذي وصل القدس في رمضان 438هـ - 1047م ، وأبو حامد الغزالي الذي زار القدس والخليل , وكتب "المنقذ من الضلال", الذي تحدث فيه عن اعتكافه في مسجد قبة الصخرة . وقد التفوا جميعهم على الإشادة بفضائل بيت المقدس . واستنتج الطيباوي مما كتبوه عنها "وجود أوقاف فيها وفي الخليل , كان يصرف ريعها على الحجاج وطلاب العلم والضيوف . وكذلك وجود بيوت وزوايا لإيواء القادمين للمجاورة , أو المارين في طريقهم إلى مكة , أو العائدين منها . وأيضاً وجود مستشفى واحد على الأقل في القدس , لمنفعة المقيمين والقادمين" .
أعلام مرموقون ولدوا في القدس أو زاروها أو جاوروها . وقد قام مصطفى الدباغ بذكر أربعين علماً في موسوعة "بلادنا فلسطين" . وعني أيضاً مع مؤرخين آخرين بذكر من زار القدس من الرحالة الأجانب . فبعد المطران فرنك أركولف , الذي سبق ذكره ، زارها عام 870م السائح برنارد الحكيم , وكتب عن زيارته , مشيداً بما بين المسلمين والمسيحيين من تفاهم تام ، وباستتباب الأمن ، ومتحدثاً عمن لقي من الحجاج المسيحيين , الذين كانوا ينزلون معه في نزل أسسه الملك شارلمان , الذي قامت بينه وبين هارون الرشيد صلات ودية . وقد فصل الحديث عن هذا الرحالة نقولا زيادة في كتابه "رواد الشرق العربي في العصور الوسطى" .
كانت السماحة الدينية أبرز سمات العيش في القدس وفي الدولة الإسلامية عامة ، كما سبق أن ذكرنا . وقد عني ميخائيل مكسي بالوقوف أمام ذلك في كتابه "القدس في التاريخ" ، وقال في ذلك "امتاز العباسيون بحسن معاملة المسيحيين , خصوصاً في عهد هارون الرشيد 786م , الذي سمح للإمبراطور شارلمان بترميم الكنائس , وبناء كنيسة باسم العذراء ، وعمل على حماية الحجاج المسيحيين" .
هذا بشأن المسيحيين من أهل الكتاب , الذين حكم التعامل الإسلامي معهم مبدأ "لهم ما لنا وعليهم ما علينا" . فماذا بشأن اليهود؟ .
لقد عني كاتب هذا الحديث بتناول هذا الموضوع في بحثه "الوجود اليهودي في القدس منذ أقدم العصور" ، فعرض لوجودهم قبل الغزو الفرنجي منذ الفتح ، في ظل انتمائهم لحضارة الإسلام ، قائلاً :
نستدل من العهدة العمرية على عدم وجود أحد من اليهود في إيلياء في يوم الفتح , حيث طلب أهلها الذين كانوا يدينون بالنصرانية "ألا يسكن بإيلياء معهم أحد من اليهود" , وقد استجاب الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه لهذا الطلب , الذي تقدم به باسم أهل إيلياء البطريرك صفرنيوس , وكان هذا البطريرك قد اشترط حين اشتد حصار المسلمين للمدينة أن يسلمها للخليفة نفسه , فلبى عمر وجاء بنفسه , وأعطى عهده الشهير إلى أهل إيلياء من الأمان "لأنفسهم وأموالهم وكنائسهم وصلبانهم , ولا يكرهوا على دينهم , ولا يضار أحد منهم" , ولبّى طلبهم ألا يسكن بإيلياء معهم أحد من اليهود , الذين كانوا كما مر بنا قد حالفوا الفرس ضد الروم وآذوا النصارى .
وبقيت القدس خالية من اليهود تنفيذاً لما جاء في هذا العهد فترة من الزمن , لم تطل , لأن الحكم الإسلامي الذي كفل حرية الاعتقاد فلا إكراه في الدين , واحترم أهل الكتاب من اليهود والنصارى , وترك لكل ملة أن تنظم شؤونها الدينية , ورحب بمشاركة جميع الأقوام والملل في الحياة العامة ، سمح لليهود بزيارة القدس , ثم بالعمل فيها وسكناها .
ويذكر إسحاق موسى الحسيني في كتابه "عروبة بيت المقدس" نقلاً عن مجير الدين الحنبلي أن عبد الله بن مروان الأموي أتاح لعشرة من اليهود أن يخدموا صناعاً في المسجد الأقصى , يعملون القناديل والأقداح والثريات وغير ذلك , "لا يؤخذ منهم جزية جارياً عليهم وعلى أولادهم" , وقد انتهت خدمتهم في عهد عمر بن عبد العزيز . ويقول عبد اللطيف الطيباوي في معرض وقوفه أمام هذا الأمر "وكذلك لا يوجد سند تاريخي يثبت نقص ما جاء في العهد العمري لنصارى إيلياء بمنع إقامة اليهود فيها . كلا ، ولا بينة تفسر سبب إهمال العمل بهذا النص , والغالب أن الشرط لم يلغ , بل قلّ الالتفات إليه تدريجياً في جو التسامح العام , وكان هناك عدد من اليهود في مدن فلسطين الأخرى ، عسقلان وقيسارية وغزة وطبرية ، وقد رأوا سماحة الحكم العربي بالإسلام , فرحبوا به , وهللوا له , وكتب عراف يهودي عن هذا الحكم فجعل ملاكاً يقول لكاهن "لا تخف يا بن يهوه فالخالق تبارك اسمه لم يضع مملكة إسماعيل إلا ليخلصكم من هذا الشر" , يقصد حكم الروم البيزنطيين , كما نقل برنارد لويس في كتابه العرب في التاريخ , وكان اليهود يطلقون على دولة العرب المسلمين اسم مملكة إسماعيل .
في ظل هذا الحكم عاش في القدس نفر من اليهود إلى جانب أهلها من النصارى والمسلمين , وقد تزايد عدد العرب المسلمين فيها , لما اتصفت به من جاذبية لهم , بحكم قدسيتها , فجذبت مهاجرين منهم إليها ، ولأن الدين الإسلامي كان ينشر تدريجياً في أوساط المسيحيين واليهود .
وتشير مصادر يهودية اعتمد عليها بن زيون دينور في بحثه المنشور في كتاب "اليهود في أرضهم" , إلى أن سبعين أسرة سكنت القدس في العصر الأموي , وذلك بعد أن عبرت سماحة العرب تجاه الجماعات الدينية عن نفسها في العهد الأموي , على حد قوله , وبوضوح أشد في العهد العباسي . وقد سجل دينور هذه الحقيقة , وحاول إلقاء ظلال من الشك عليها , بإيراد تعليلات غير موضوعية لها , جعلت حديثه حافلاً بالمتناقضات . ويستدل من حديث الرحالة المسلم ناصر خسرو , الذي زار القدس سنة 438هـ الموافق لـ 1047م أن عدد سكان المدينة كان عشرين ألفاً , وأن مثل هذا العدد من الحجاج كان يزورها سنوياً .
استمر الوجود اليهودي في القدس منذ الفتح العربي الإسلامي لها إلى أن احتلها الفرنجة عام 1099م , وفي فلسطين و المنطقة , التي أصبحت تعرف بدار الإسلام عامة ، وساهم في هذا الاستمرار هجرات أفراد من اليهود إلى فلسطين , طلباً للأمن أو العلم , أو بغرض التعبد , سواء من دار الإسلام أو من خارجها . وقد لاحظ باركس في كتابه "تاريخ فلسطين من 135 إلى الزمن الحديث" أن الحكام المسلمين لم يرفضوا في أية فترة السماح ليهود من بلاد أجنبية أن يدخلوا فلسطين , ويقيموا فيها , وبدون هذه الهجرة ما كان لوجودهم أن يستمر , وذلك لأن أعداداً منهم كانت تعتنق الإسلام بكامل رغبتها , وألحق هذا السماح , الذي يشير إليه باركس , لليهود المستأمنين , الذين يأتون مسالمين , وهو نابع من تعاليم الدين الحنيف .
عاش أهل فلسطين والقدس في ظل الحكم الإسلامي التحول العظيم , الذي حدث في القرن الأول الهجري , بفعل نشوء العمران الحضاري العربي الإسلامي , وشاركوا بمختلف مللهم في ازدهار هذا العمران الحضاري , من موقع الانتماء الحضاري إليه . وهذه ظاهرة يوقف أمامها , وقد كانت لها تجلياتها في طابع حياتهم في القدس ودار الإسلام . ومن الذين وقفوا أمام هذه الظاهرة أحد يهود الإسلام , كما يصف نفسه , إلى جانب كونه أحد يهود العرب , هو جدع جلادي , الذي كتب "إسرائيل نحو الانفجار الداخلي" , وخصص الفصل الأول من كتابه هذا لتأمل هذه الظاهرة ، واختار عنواناً للفصل "الوئام بين يهود العالم الإسلامي والأمة الإسلامية" . وقد أحسن جلادي الإحاطة بالظاهرة فيما كتب , وتتبع جذورها , فعرض بداية تعامل الرسول صلى الله عليه وسلم مع اليهود , وحلل مضمون الصحيفة , ثم تحدث عن اليهود والفتوحات الإسلامية , وترحيبهم بها , ثم شرح نظام الملل الإسلامية , وأطلق عليه مصطلحاً حديثاً هو "الحكم الذاتي اليهودي" , ثم فصل الحديث عن اليهود في الحكم الإسلامي , وإسهامهم في ازدهار الاقتصاد , ثم وقف أمام تعرب اليهود في الإسلام لساناً وثقافة وحضارة ، وعرض أسماء من برزوا منهم في مختلف العلوم والآداب , وفصل الحديث عن التسامح الإسلامي , وختم بحديث عن يهود الغرب ويهود العراق .
وكان كاتب هذا الحديث قد وقف أمام هذه الظاهرة في بحثه "تطور حياة اليهود في فلسطين" , وفي بحثه عن "التعددية الدينية في الإسلام" , المنشور في كتابه "وحدة التنوع" . كما تناولت كتابات عربية وأجنبية الظاهرة بالدراسة . ولافت للنظر أن الكتابات الصهيونية حين وقفت أمامها حارت في كيفية التعامل معها , فحفلت بالتناقض مع نفسها ، ومثّل عليها الفصل الذي كتبه بن زيون دينور في كتاب "اليهود في أرضهم" .
إن هذه الظاهرة تفسر خلو تاريخ يهود الحضارة الإسلامية من أية ثورات على الحكم , على ما رأيناه في تاريخ اليهود , في ظل حضارتي اليونان والرومان , كما تفسر الإسهام الإيجابي لليهود في هذه الحضارة , وانعكاسها الإيجابي على حياتهم . وقد عرض فؤاد حسنين في كتابه "المجتمع (الإسرائيلي) منذ تشريده حتى اليوم" مثلاً على ذلك ظهور مذهب القرائين , الذي هو و لا شك وليد الإسلام والمجتمع الإسلامي ، وكان اليهود قبله يخضعون دينياً لنظام تلمودي شديد , يقيد حريتهم ، فإذا بالحضارة العربية الإسلامية تهزهم وتزعزع ثقتهم في التلمود , فكان أن ظهر هذا المذهب الجديد , وطور "الربانيون" منهم مذهبهم .. وهكذا برز عنان الذي أسس القرائين في العصر العباسي , وتأثر بتيارات الفكر الإسلامي . وبرز أيضاً سعيد الفيومي , الذي دافع عن اليهودية "السنية" ضد القرائين , وألف عدداً من الكتب .
والحديث عن انتماء يهود الإسلام إلى الحضارة العربية الإسلامية , وإسهامهم فيها , يغري بالاستطراد , ولكن مجال هذا الحديث يضيق عنه , ونكتفي بالإشارة إلى أعلام يهود برزوا , من أمثال موسى بن ميمون , وابن كمونة , والسمؤل بن حنفي , وغيرهم .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق